قال رحمه الله: (وقال معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق الفزاري عن الأوزاعي قال: [لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل]) نقل الشيخ كل هذه الآثار ليؤكد أن ما زعموه من أن التصديق لا يكون إلا بالقلب واللسان التي هي المقدمة الثانية خطأ، وهنا كلمة عظيمة، وهو قوله: (لا يستقيم الإيمان إلا بالقول) فمن قال: آمنت وعرفت وصدقت ولم ينطق بكلمة الشهادة، ويعلن إذعانه وانقياده فهذه مجرد معرفة ليست إيماناً، فلا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل.
قوله: (ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة) اختلفت عبارات العلماء والمراد واحد، وهو أن الإخلاص لا بد منه، والنية لا بد منها قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) وهذا عموم مطلق ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) فإذا لم تكن نيته خالصة وعمله موافقاً للسنة فلا ينفعه قول ولا عمل.
[وكان ممن مضى من سلفنا -هذا من كلام الأوزاعي - لا يفرقون بين الإيمان والعمل] فـالأوزاعي يقول أن هؤلاء الذين قدموا بالبدعة من العراق قد خالفوا من أخذنا عنه هذا العلم من سلفنا الأئمة الأجلاء من الصدر الأول الذين لم يكونوا يفرقون بين الإيمان والعمل بل العمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وهذه كلمة عظيمة جداً، أما أن العمل من الإيمان فأمرٌ واضح وجلي، وأما أن الإيمان من العمل، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ( أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله ) فهذا من هذا، وذاك من هذا.
ثم يقول: [وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها] فالإيمان اسم جامع يجمع الدين ويشمل المراتب الثلاثة كلها، ككلمة الدين، والإيمان الذي نتحدث عنه ونقصده ليس الإيمان الذي هو المرتبة التي هي أعلى من الإسلام، لكننا نعني الإيمان بمعنى الدين كما بينه صلى الله عليه وسلم في حديث: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) فالإيمان هو الدين، كما في آية الحجرات قال تعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14] ادعوا فرد عليهم بقوله: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ))[الحجرات:15] وذلك مثل أبي بكر و عمر والصحابة إذ حالهم أنهم آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، بل دخل الإيمان قلوبهم ولم يخالطه شك، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله في بدر و أحد والخندق و حنين وغير ذلك (( أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ))[الحجرات:15] يعني: هؤلاء صادقون إذا قالوا نحن المؤمنون، مع أنهم رضي الله عنهم لم يكونوا يزكون أنفسهم، وهم أزكى الخلق عند الله بعد الأنبياء، ثم يقول تعالى: (( قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ))[الحجرات:16] فالدين هو الإيمان ويشمل هذه المعاني، كما قال الإمام الأوزاعي رحمه الله يقول: [ فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق بعمله فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها ] فلابد أن تجتمع هذه الأمور الثلاثة ما في القلب، وما في اللسان، وما في الجوارح.
ثم قال: [ ومن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدق بعمله ] أي: اكتفى من الإيمان بالقول فقط كان في الآخرة من الخاسرين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وهذا معروف عن غير واحد من السلف والخلف أنهم يجعلون العمل مصدقاً للقول) أي: أن ما ذكرناه آنفاً ليست إلا نماذج وأمثلة، وإلا فهذا كلام عام معروف عند العلماء عن السلف.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ورووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم) وهذا المروي في الحقيقة غير ثابت، قال: (كما رواه معاذ بن أسد حدثنا الفضيل بن عياض عن الليث بن أبي سليمالليث هذا ضعيف- عن مجاهد أن أبا ذر رضي الله عنه: ( سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: الإيمان الإقرار والتصديق بالعمل، ثم تلا: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ... ))[البقرة:177] إلى قوله: (( وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[البقرة:177] ) ).
قال: (قلت حديث أبي ذر هذا مروي من غير وجه) وكثير من كتب الإيمان تروي ذلك، وممن رواه الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره عند تفسير هذه الآية، وذكره البخاري وغيره، ولكن الحديث ليس ثابت الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام: (فإن كان هذا اللفظ هو لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا كلام، وإن كانوا رووه بالمعنى دل على أنه من المعروف في لغتهم أنه يقال: صدق قوله بعمله) وهذا رواه عبد الرزاق وغيره عن الحسن ، فإذا كان الكلام من كلام أبي ذر ، أو من كلام الحسن ، أو من كلام مجاهد فالمقصود متحقق، وهو أن السلف يفسرون هذا بهذا، ويجعلون الإيمان هو العمل ويفسرونه به.
أما الجواب الثاني بأنه إذا كان أصل الإيمان التصديق فنجيب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن ننفي أن الإيمان هو التصديق وأنهما مترادفان، ثم نجعل رد المقدمة الثانية من وجهين:
الوجه الأول: هو ما ذكرناه آنفاً وهو أن نقول: هب أن الإيمان هو التصديق، فالتصديق يكون بالقلب واللسان والعمل كما هو كلام السلف.
الجواب الآخر: أنه لو فرضنا إنه مرادف أو أنه مأخوذ منه فقد رده المؤلف بقوله: (فهو تصديق مخصوص) ليس كما هو في أصل اللغة، وأخذ رحمه الله يمثل على ذلك ببقية العبادات كالصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك، من حيث معناها في اللغة.